باريس: ميشال أبونجم
مرة أخرى تتسبب الشرطة الإسرائيلية في مدينة القدس ب »إشكال » ديبلوماسي بين باريس وتل أبيب. ومرة أخرى يكون تصرف الشرطة المذكورة هو السبب لتعنتها من جهة ولرغبتها في تقليص النفوذ الفرنسي في المدينة المقدسة من خلال التضييق على المسؤولين الفرنسيين خلال زياراتهم لها. فما زالت حاضرة في أذهان الناس غضب الرئيس الأسبق جاك شيراك في العام 1996 لدى زيارته القدس عندما تبين له أن مرافقيه من الأمن الإسرائيلي يسعون لمنع تواصله مع الفلسطينيين في المدينة القادم وصرخ بوجه المسؤول عنهم: « هل تريدني أن أذهب الى المطار وأستقل طائرتي للعودة الى بلدي؟ ». والأمر نفسه حصل مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في العام 2020 عندما كان في زيارة رسمية لإسرائيل والأراضي المحتلة إذ عمدت الشرطة الإسرائيلية الى إعاقة دخوله الى كنيسة القديسة حنة القائمة في المدينة القديمة والتي هي ملك للدولة الفرنسية منذ أكثر من 150 عاما. وما كان لماكرون الا أن توجه الى المسؤول الأمني بقوله: « لا يعجبني ما فعلته أمامي، من فضلك ارحل من هنا » ما دفع الشرطة الى إخلاء المكان.
ما حصل الخميس لا يختلف كثيرا عن هذا السيناريو. فوزير الخارجية مان في زيارة رسمية إسرائيل للمرة الثانية خلال شهر واحد وغايته، كما قال، الدفع باتجاه وقف الحرب إن في غزة أو بين إسرائيل وحزب الله. ولأن فرنسا تمتلك أربع مواقع دينية في القدس ولأنها، منذ عشرات العقود، تعد رسميا برعايتها وتتولى الإعتناء بها عن طريق قنصليتها في القدس، فقد أراد الوزير جان نويل بارو زيارة أحدها وهو المجمع المسمى « أليونا » الذي يضم ديرا وكنيسة « باتر نوستر » القائمة على « جبل الزيتون » المشرف على المدنية القديمة.
« الإشكال » حصل عندما سعى أفراد من الشرطة الإسرائيلية الى الدخول الى الكنيسة بسلاحهم ومن غير إذن من السلطات الفرنسية ممثلة بقنصليتها في القدس. وحصل تلاسن بين هؤلاء وبين عنصرين من الدرك الفرنسي التابعين للقنصلية والذين يتمتعان بالحصانة الديبلوماسية لأنهما سعيا لمنع الإسرائيليين من الدخول الى حرم الكنيسة. وما كان من الشرطة، وفق ما أظهرته مقاطع فيديو، إلا أن دفعت أحد العنصرين أرضا والإنبطاح فوقه وتكبيل يديه وسوقه الى سيارة تابعة لها ونقلته مع زميله الى أحد المخافر. ولم يفرج عن الإثنين إلا بعد تدخل الوزير بارو مباشرة لدى السلطات. وبسبب هذا الحادث الذي لم تعره إسرائيل أي اهتمام نافية عنها أية تهمة أو تقصير، فقد ألغى بارو زيارة المجمع واتهم الشرطة الإسرائيلية بأنها وصلت حاملة سلاحها ومن غير إذن معتبرا أن ما حصل « أمر لا يمكن القبول به ». واستطرد قائلا: » » من المرجح أن يتسبب هذا الاعتداء على سلامة مكان تحت إشراف فرنسا، في إضعاف الروابط التي جئت في الواقع لتنميتها مع إسرائيل في وقت نحتاج فيه جميعا إلى إحراز تقدم في المنطقة على طريق السلام« . ومن جانبها أصدرت الخارجية الفرنسية بيانا اعتبرت فيه أن » تصرفات {الشرطة الإسرائيلية} غير مقبولة » وأن فرنسا » تدينها فرنسا بشدة خصوصا أنها تأتي في وقت تبذل فيه {فرنسا} كل ما في وسعها للعمل على تهدئة العنف في المنطقة ». وأوضح البيان أنه « سيتم استدعاء السفير الإسرائيلي في فرنسا إلى الوزارة في الأيام القليلة المقبلة » ولكن من غير تحديد يوم بعينه للإستدعاء الذي يطلب عادة للتعبير عن الإستنكار والإحتجاج وربا للطلب رسميا من إسرائيل تقديم اعتذار عما حصل.
النقمة الفرنسية إزاء الإهانة التي لحقت بباريس من دولة تعتبرها فرنسا حليفة وصديقة لها واجهتها إسرائيل بنفي أية مسؤولية عن شرطتها وبالتأكيد أن تنسيقا مسبقا حول الزيارة تم بين الطرفين الأمر الذي نقضته المصادر الفرنسية. وإذا صحت الرواية الفرنسية، فإن عدة أسئلة تطرح نفسها حول الأغراض التي دفعت تل أبيب لافتعال « حادث ديبلوماسي » جديد مع فرنسا.
ليس سرا أن علاقات البلدين تجتاز مرحلة من الفتور لا بل التباعد بعد السجال الذي حصل بين الرئيس ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بعد دعوة الأول الى وقف تصدير السلاح الى إسرائيل كوسيلة وحيدة لوقف الحرب أو طلب الحكومة الفرنسية استبعاد الشركات الإسرائيلية من معرضين عسكريين جريا في فرنسا {في شهر يونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول الحالي} واتهام ماكرون الجيش الإسرائيلي مداورة بارتكاب « مجازر » في غزة أو تذكير نتيناهو بأن إسرائيل قامت بفضل قرار من الأمم المتحدة وبالتالي عليه ألا ينسى دور المنظمة الدولية التي يرفض الإنصياع لقراراتها. ويأخذ ماكرون على الأخير طريقة تعامله مع المبادرة الفرنسية ـ الأميركية لوقف الحرب التي قبلها نتياهو ثم انقلب عليها لاحقا ودخلت غياهب النسيان بعد أن أمر بالضربة القاتلة التي قضت على أمين عام حزب الله حسن نصرالله وعلى قادة عسكريين آخرين من الحزب ومن إيران. ورجح مصدر سياسي فرنسي أن تكون إسرائيل بصدد « توجيه رسالة مزدوجة » الى باريس: أولاها، التأكيد على سيادتها التامة على القدس وعلى ما تشتمله بما في ذلك الأماكن العائدة لفرنسا والمستفيدة من حمايتها. والثانية، إفهامها أنها لا تحتاج إليها لا بل إنها تعتبرها عائقا دون تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية من الحرب المزدوجة {لبنان وغزة}. لكن باريس تخسر بالمقابل القدرة على التأثير على نتياهو وعلى السياسة الإسرائيلية بشكل عام. والملفت أن ماكرون سعى لإصلاح ذات البين بينه وبين نتنياهو بأن داوم على الإتصال به والإعلان عن تمسكه بأمن إسرائيل وبحقها في الدفاع عن النفس. ولكن دون طائل حتى اليوم.