« انتصار ترامب في صِراع الأميركيَّتين، ومحك الدولة الاميركية العميقة، وتداعياته عالمياً! » مقالتي في « قضايا »

بقلم المحامي كارول سابا

« كل شيء مُمكن مع ترامب »! هذا قول لكبار مُستشاريه، هو زنبرك لقراءة الرئاسة الترامبية الثانية. يُخطئ مَن هلَّل مُسبقاً لوصول ترامب مُجدداً الى البيت الأبيض، أكانت قوى لبنانية، إقليميّة شرق أوسطية، أوروبية واو دولية. كما يُخطئ مَن يَخشى اليوم، هذا الوصول. القول أعلاه لا يعني ان الامور ستكون سهلة معه، بل انه ستكون متحركة ومُحتفَّة بالأخطار والفرص. فترامب بقي فُجائِيّ، ُيفاجئ الخصم والصديق. لم تُغيِّر ممارسة السياسة من اطباعه كرجل أعمال يُعلي منطق « الرَازْيا » أي الغزو السريع والإغارة الفجائية، على منطق الجدارات وحروب المجابهة. هو يعتبر نفسه كقائدٌ سياسي « مُقرِّر »، بعكس الذين هم من نتاج الإستابليشمنت الذين يُظهِّرون القرار الذي يتم انتاجه لهم في غرف السلطة المظلمة. ترامب يردد ان الناس تريد قادة يُقرِّرون، يخاطرون، وليس منفذين لقرارات اُنتِجت لهم في مراكز التأثير السياسة.
المبارزة لم تكن بين ترامب وهاريس. بل بين أميركيتين ومجتمعين. فظهر ترامب انه من خارج الإستابليشمنت، بينما ظهرت هاريس من وراء بايدن، انها وريثة سياسية وليس قائدة، وأنها من نتاج هذه المنظومة النخبوية. فسياسة ترامب تبدو بالظاهر شعبوية مصلحية مَطَّاطِيَّة، ولكنها ليست بالضرورة ارتجالية، بل مستندة الى رؤية دفاع عن القِيَم المُحافظة اليمينية. من هنا عناصر تلاقيه مع اليمين الروسي المُحافظ الذي يُسَوِّق له بوتين واليمين الأوروبي. أما هاريس، فهي وريثة بايدن، وبايدن هو وريث أوباما، المُنتهي اليوم ظل تأثيره وسياساته التي سببت خيبات امل كبيرة، داخليا وخارجيا. هذه المبارزة تتخطَّى عملية انتقال السلطة. فهي مبارزة بين مجتمع مُحافظ، يشعر انه مُهدد من الليبرالية الراديكالية المفرطة ومن التقدمية والووكية ومن كل عنصر خارجي، ويريد ان يحافظ على القيم التقليدية وعلى المصالح الاميركية « أولا »، ومجتمع تقدمي نخبوي يستند الى الدولة العميقة الأميركية ونخبها المعولمة، ينتقد الهجمة المُحافظة لكنه يستمر في نفس السياسات من داخل الإستابليشمنت، الأميركي والعالمي.
لماذا ترامب اليوم؟ الأسباب الموجبة كثيرة اميركيا ودوليا ولا يمكن حصرها في مقال. الأساس ان الاوبامية السياسية وتداعياتها الخطرة في أوروبا وفي الشرق الأوسط انتهت وسوف تتغير، في مقاربة الأطلسي، في أوكرانيا والعلاقة مع روسيا وبوتين وربما الصين أيضا. في الشرق الأوسط، حيث العنف أخذ مداه، التحدي الأكبر لترامب سيكون في عقلنة المسيانيات الدينية المتطرفة، اليهودية، السنِّية الاخوانية، والشيعية المهدية. مُقاربة اتفاقات ابراهام لم تعد الإطار الصالح للجم العنف ولإرساء السلم العادل المبني على الحقوق الأساسية لكل الأطراف.
تساؤلات كثيرة قائمة حول نوايا ترامب، فريق عمله، وتحديات ولايته الثانية. أنا كنت على يقين، منذ فترة، مِن فوزه، لاعتقادي كمراقب ان الديناميكية السياسية والكلامية والنفسية الاستراتيجية التي حركها، هي مُتناغمة مع نفسية الاميركيين الذين يتساءلون كثيرا عن اية اميركا نريد، من يحكمنا، هل لازلنا ديمقراطية، اية قيم هي محركة لمجتمعاتنا، هل لا زلنا أوفياء لعناصر الحلم الأميركي الأساسي، هل لازلنا نموذجيين للعالم، ام أمسينا قوة تريد السيطرة العالمية، هل عناصر الجمع بين الاميركيين لازالت اكبر من عناصر الانفصال، كيف ولماذا لا تتغير الأمور بالنسبة للأغلبية المطلقة من الاميركيين الذين يخضعون لقلق الامن وكرامة العيش وبناء المستقبل الخ. مرحلة الشك طاغية في اميركا، وتكثر فيها التساؤلات حول السياسات الداخلية والخارجية، وحول ماهية ورسالة وركائز الدولة التي كان يُقال عنها انَّهُ لا يَهتَزّ دُستورها. من هذه التساؤلات تنبثق المخاطبة الشعبوية الترامبية المحافظة.
يُجمع المراقبون انه لم يكن مهيئ في الولاية الأولى بسبب عدم الخبرة السياسية، ومحاربة الإستابليشمنت الجمهوري والديمقراطي له. اما اليوم، فيبدو ان كل المناخات جاهزة للقيام ب « الثورة المُحافظة » على كل الصعد. فهو مُحاط بلجان عمل لكبار الندوات الفكرية اليمينية المُحافظة، ومنها « ايريتاتج فاونديشون »، مؤسسة التراث التي تعمل منذ عهد الرئيس رونالد ريغن، والقريبة منه، التي تضع الخطط منذ فترة للانقضاض على الدولة العميقة « الديب ستيت » لتغيير معالمها وقيمها وتوازناتها. فلا ننسى مثلا ان ترامب هو الذي غير جغرافية المحكمة العليا الأميركية التي امست، بفعل تعيينه لثلاثة قضاة محافظين، محكمة مُحافظة بأغلبية 6 قضاة على 9. اليوم الثورة المحافظة ستتمدد بمنهجية كبيرة في كل ثنايا الدولة العميقة، مما سيكون له تداعيات إستراتيجية على السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. فعودة ترامب المُظفرة لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة. نصره هو اليوم لحظة التقاء بين قائد فرض نفسه على الجميع، بالرغم من عشوائية البدايات، مع المجموعات المحافظة الأميركية التي تقونن منذ فترة حرب الردة على العولمة الراديكالية والليبرالية المفرطة التي فككت كل القيم التقليدية في مجتمعاتنا وجعلتها ساحات سائبة يعمل فيها بالعمق كل أنواع التبشيريين اتباع الراديكاليات على انواعها. هو اليوم متمكن من الحزب الجمهوري ونخبه الجديدة، وأعطى لمعركته بُعد عقائدي مُحافظ. فأمسى أيقونة شعبوية احتجاجية على سيطرة الإستابليشمنت النخبوي الذي لا لون له ولا طعم، والذي يفرض سياسات عالمية مبهمة فوقية لا تأخذ بعين الاعتبار الهويات والمصالح المحلية للشعوب والمكونات. وأصبح راية قتالية للحالة الشعبوية اليمينية المحافظة الهوياتية التقليدية التي تعبر العالم، من شرقه الى غربه، والمنتفضة على الليبرالية الراديكالية والتقدمية التي ضربت هوياتها الاصلية واسست لسياسيات مبهمة ومصلحية تحت مسمى التقديمة . انتخاب ترامب هو متنفس استراتيجي للحظة ثورة الردة اليمينية المُحافظة العالمية المُضادة على التقدمية والووكية، من روسيا، وبولندا، وهنغاريا، مرورا بإيطاليا وفرنسا، وصولا الى الارجنتين واميركا ترامب، من اجل الوصول الى حوكمة مُنتجة، مُتوازنة للتقليد والحداثة.
« كل شيء مُمكن مع ترامب!

ظاهرة ترامب خلافية ومُحيِّرة، كونه فُجائي ومتقلب. فهولا يعجن كلماته. هو رجل اعمال براغماتي، يسعى لمراكمة الكسب. لا عداوات له ولا صداقات، بل معادلات مصلحية ينطلق منها بالسياسية كما في الاعمال. يبتعد عن لغة السياسيين المُلتوية. خطابه مٌباشر، حاد، فيه مدح وذم، فيه سخرية وتمجيد، خطاب تدينه النُخب، ويحبه أبناء الشعب، كونه يشبههم. ترامب شخصية من خارج طبقة الإستابليشمنت النخبوية كما كان رونالد ريغان الذي عُيِّرَ من هذه الطبقة حين انتخابه انه « مُمَثِّل » ونُظر اليه بفوقية، وتبيَّن انه كان من أكبر الرؤساء الاميركيين نفوذاً وتأثيراً وحنكة سياسية. بقيت شخصية ترامب النفسية هي الطاغية على شخصيته السياسية. المرحلة المقبلة تُقرأ من هنا، من مقاييس شخصية ترامب النفسية، قبل شخصيته السياسية. ففي علم النفس السياسي المتنامي علمه هذه الأيام، تطغى الشخصية النفسيّة الأساسية عند القادة، على تراكمات شخصيتهم السياسية. فهوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسية السابق، يُشدِّد في مقدمة كتابه الموسوعة، « رؤية للعالم »، على نظرية تأثير شخصية القادة الكبار على مسار التاريخ والأحداث. فدراسة السرديات الذاتية لقادة كبار في التاريخ، خلافيون كانوا ام لا، من خلال عِلم البيوغرافيا، امست ضرورة عند الباحثين لتقييم السياسات. فيدرين ذكَّر بِسَرديَّات « يوليوس قيصر، مرورا بريشوليو، ومزاران، وتاليران، وميترنيخ، وبسمارك، وكليمونصو، وولسون، وهيتلر وروزفلت، وترومان، وستالين، وتشرشل وديغول »، لينتهي بالقول « نعم، شخصية القادة مُهمة عندما لا يكونوا من التُبَّاع،