بنى الأوطان على أساس ثابت، الا وهو إرادة العيش المشترك حول مشروع انساني وحضاري واضح المعالم.
فإرادة العيش معاً تنبع من عوامل عدة تكوّن القواسم المشتركة، أكانت جغرافية، أو تاريخية، أو ثقافية، حضارية، دينية أو حتى عرقية، كما أنها تعزَّز بالاختبارات والإنجازات والمآسي التي تبني الذاكرة المشتركة.
كانت الحدود الحالية للوطن، كما وردت في وثيقة اعلان لبنان الكبير سنة 1920، تعبيراً عن الحدود الجغرافية الطبيعية وترجمة للتاريخ المشترك بين حضارتَي الشرق والغرب، بين ساحل التجارة والحضارات الإمبراطورية وجبل الرفضيين المقاومين للواقع الاكثري. أما المشروع الوطني فارتضاه اللبنانيون مشروعاً ثقافياً انسانياً يصبو على رغم المصاعب الى توحيد التناقضات لاستخلاص ثروة التفاعل منها.
يحمل هذا المشروع في طياته بنيوياً الصعوبات والأزمات المتتالية، وفي المقابل يُنتظر منه دور حضاري غني مميز بين الشعوب من جراء التفاعل بين الأضداد. من إنجازات هذه التجربة الفريدة انها عززت الحوار الإسلامي – المسيحي وأنتجت النظام الوحيد في العالم حيث يشارك فيه الإسلام مناصفة في السلطة.
عرف لبنان مرحلة من الشك في ديمومة هذا المشروع، وعاش اللبنانيون الأزمات والثورات باسم الخصوصيات والميزات والانتماءات المختلفة وصولًا الى الحرب الأهلية المدمرة سنة 1975. ولم يتوصل اتفاق الطائف الى ردع هذا الشك نهائياً والتعبير الواضح عن اللحمة الوطنية، وخير دليل على ذلك الإحساس آلعام الرائد عند اللبنانيين إذ اعتبروا مجرد تبنّي شعار لبنان اولاً انجازاً وطنياً بعد 60 سنة من اعلان الاستقلال. لكن تراكم المآسي أعطى المواطنين سيرة مشتركة عبّرت عنها مشاعر ثورة 17 تشرين بشيء من الرومانسية، منادية بالوحدة القومية العابرة للمناطق والمذاهب والانتماءات، ما يبشّر بترسيخ هذا المشروع الوطني وديمومته. وإذ بالبلد يعيش أزمتين تكوينيتين، احداهما مالية اقتصادية سياسية يتحمل مسؤوليتها الطاقم السياسي المتناوب على السلطة منذ التسعينات، والأخرى صحية لا دور للبنانيين فيها. وهنا كان يفترض، كما هي الحال في معظم الدول الديموقراطية، ان تشكل هذه الأزمة المزدوجة فرصة فريدة، على رغم صعوبتها أو ربما بسبب شموليتها وضراوتها، الظرف الأمثل للتعبير عن الوحدة الوطنية ووحدة نظرة الشعب وممثليه الى الأمور المصيرية. لكن على عكس ذلك طلَّت علينا هذه الطبقة السياسية بمواقف وتهجمات تعيد البلد الى سابق عهده من انقسامات عمودية وممارسات بالية باسم المحاصصات المذهبية والحزبية والمناطقية، وتعترض على أي قرار حكومي وكأنها لا تلقى قسطها الا بفشل الدولة والذي هو يعني في ظل هذه الأزمات فشل كل لبنان وتدمير الدولة وتفقير شعبه. وبسبب هذه الممارسات نتجه مرة أخرى الى تضييع فرص التعاضد الوطني وترسيخ وحدتنا الوطنية.
ان الوطن يكتب صفحات وحدته وديمومة مشروعه في هذه الظروف العصيبة. فالمطلوب من الحكومة نظراً الى خطورة المرحلة ان تفتح اكثر فاكثر باب التداول والتعاون والتشاور مع جميع المكونات، وان تتخلص من المداخلات وتأتي بعد كل المشاورات بخطة إصلاحية واضحة جريئة تتمكن على ضوئها من مقاربة الحلول المالية منها والاقتصادية، وعلى الآخرين ان يتعاونوا ويشاركوا في ايجاد المخارج والحلول والمساعدة في تطبيق القرارات المصيرية.
هوذا ثمن النهوض بالوطن على انقاض الماضي، وطن كما حلمناه لجميع أبنائه، يحترم شهداءه ويبعث الأمل عند الأجيال الناشئة، فتكون للظروف المأسوية التي نعيش نافعة بعث الأمل.
إبراهيم الضاهر
وزير سابق