بن سلمان يستعيد علم فلسطين من طهران..

MBS RECUPERE LE DRAPEAU PALESTINIEN DE L’IRAN

بعد اتّفاق بكين، سكتت كلّ الأبواق وجفّت كلّ الأقلام التي طالما دأبت على استهداف المملكة العربية السعودية، ثمّ حين باتت المقاتلات الإسرائيلية تسرح وتمرح في سماء طهران، عاجل كبير الدبلوماسية في إيران إلى خطب ودّ الرياض خشية الشروع الدولي بإسقاط النظام. الآن استعرت الأبواق واشتعلت الصحف على نحو مفاجئ، فما هي الأسباب؟ وما الذي تغيّر؟ ولماذا الآن؟

ثمّة صحافة لا تنطق عن الهوى. بل تقول ما يهمس به رعاتها. وهذه بعضٌ من الأساليب المعتمدة والموثّقة لتوجيه الرسائل. أو لصناعة رأي عامّ. أو لتحضير أرضيّة تستبق معطيات سياسية أو تطوّرات أمنيّة. ولذلك استحالت منابر الممانعة إعلاماً حربيّاً كامل الأوصاف. يؤخذ منها ومن حملاتها ما يؤخذ من لسان متّهم في غرف التحقيق.

انفجر الإعلام الحربي التابع لـ”الحزب” فجأة بوجه السعودية ودورها وسياساتها، وهو انفجار لا يقتصر بطبيعة الحال على رغبة “الحزب” وحده، بل يستند إلى سياسة مركزيّة في إيران، تقوم على فكرة استهداف ممنهج للرياض، ليس انطلاقاً من عداوة سالفة، بل خشية من دور لاحق، وهو الدور الذي تتبلور ملامحه تباعاً، بدءاً من دمشق، وصولاً إلى القدس فضلاً عن بيروت.

ضاقت الدنيا بما رحبت

دخول الرياض الوازن والمؤثّر والحاسم على خطّ إرساء الاستقرار في سوريا، شكّل صفعة مترامية الأطراف على وجه المشروع الإيراني العابر لخرائط المنطقة، ولأنّ طهران ترفض التصديق أو التسليم بخسارة جسر عبورها الاستراتيجي إلى البحر المتوسّط وإلى نخاع شوك المنطقة، تراهن على الوقت وعلى التطوّرات، لتعود وتدخل من النافذة بعد سحلها من الباب العريض.

راهنت إيران وعقلها المدبّر على حركة الساحل العلويّ الممتعض، وقد استثمرت فيه ما يُساعد في تمرّده، لكنّها أصيبت بالخيبة

راهنت إيران وعقلها المدبّر على حركة الساحل العلويّ الممتعض، وقد استثمرت فيه ما يُساعد في تمرّده، لكنّها أصيبت بالخيبة، وكأنّ الخطّة نُفّذت قبل أوانها، ثمّ راهنت على انفجار أفقي داخل المجتمع السوري على خلفيّة تطاير الأشلاء في كنيسة مار الياس، لكنّها أُصيبت أيضاً بخيبة مماثلة، لتعود وتضيف فوق خيباتها جبلاً بحجم جبل العرب. قبل ذلك وبعده، مشى مظلوم عبدي على درب اندماج الأكراد في الإطار الوحدويّ، ثمّ باغتهم عبدالله أوجلان برمي السلاح. لقد ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت.

أصل الضيق مردّه في الرياض. ثمّة عقل سياسي ودبلوماسي مستجدّ ومختلف وغير مسبوق، وثمّة ولي عهد هناك بات يُمسك زمام المنطقة على نحو لم يعهدوه من قبل. سارع إلى احتواء سوريا واحتضانها وحمايتها، وإلى توفير كلّ ما من شأنه أن يُعزّز وحدة الأرض واستقرار المجتمع، وهذا نقيض إيران الكبرى، التي تعيش فوق الخراب وتنمو، ثمّ تغيب كلّما سطعت شمس الدولة القادرة والمستقرّة.

إيران

في موازاة هذا الملفّ الهائل، يحضر ملفّ آخر أمسكته الرياض بكلّ يدها، ثمّ سحبته من دائرة المزايدات والشعبويّات، وحوّلته من شمّاعة تستخدمها إيران لتشريع نفوذها، إلى فعل سياسي تراكميّ على مستويات عالميّة، حيث بدا أنّ مؤتمر حلّ الدولتين الذي حملته الرياض فوق كتفيها إلى باريس، هو أهمّ حدث سياسي تأسيسيّ في القضيّة الفلسطينية منذ هزيمة عام 1967، وقد يتجاوز الحيثيّة التأثيريّة لمبادرة السلام العربية التي أُطلقت في بيروت منذ عقدين ونيّف.

كانت السعودية متّهمة على نحو مستدام بالذهاب نحو التطبيع المجّاني، وقد انبرى الإعلام الحربي التابع للمحور الإيراني لتصدير هذه الصورة وترسيخها، على اعتبار أنّ المملكة كانت متوثّبة لدخول مسار السلام الإبراهيمي قبل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، لكنّ مسار الأحداث والتطوّرات أظهر بشكل قاطع أنّ للرياض سقفاً سياسيّاً مرتفعاً، وأنّ ذهابها نحو خيارات كبرى من هذا النوع لا بدّ أن يخضع أوّلاً لجملة من الشروط، وفي مقدَّمها قيام دولة فلسطينية متكاملة الأوصاف.

عاجل كبير الدبلوماسية في إيران إلى خطب ودّ الرياض خشية الشروع الدولي بإسقاط النظام

تضرب عميقاً في المقتل

لكلّ هذا وأكثر، يتدافع الإعلام الحربي لهذا المحور نحو قصف عشوائي يطال كلّ الحركة السعودية، وقد وصل بهم الأمر حدّ الهذيان، على اعتبار أنّ التطوّرات السياسية اللبنانية وما نتج عنها من قرار مفصليّ في مجلس الوزراء حول حصر السلاح، هما النتاج الطبيعي لضغط سعوديّ كبير، وليست حاجة لبنانية تاريخية، أو حاجة عربية أو دولية، بل وذهب البعض حدّ اعتبار أنّ الموقف الأميركي نفسه ناتج عن ضغط سعوديّ هائل يُمارَس في الكواليس.

فهمت طهران جيّداً أنّ ثمّة عقليّة سعودية جديدة بدأت تجتاح المنطقة بعد انكفاء استمرّ لسنوات، ولهذا تُعبّر عن امتعاضها الكبير، وتُطلق العنان لأذرعها السياسية والإعلامية بهدف تطويق هذه الحالة الآخذة في الاتّساع على نحو سريع، وهو اتّساع يملأ الفراغات المهولة في المنطقة، ويغلق كلّ الثغور التي قد تستغلّها طهران لإعادة اختراق الأنسجة السياسية والاجتماعية، علاوة على شمّاعة القضيّة الأمّ، التي علّقت عليها إيران كلّ ممارساتها التخريبية منذ نصف قرن.

الثابت حتّى الآن أن لا عودة إلى الوراء. السعوديّة ماضية في طريق لا عودة منه، وهو الطريق الذي يصل حصراً نحو بناء شرق أوسط مستقرّ ومزدهر، ونحو بناء دول وطنية وعصرية وموحّدة، ونحو سحب كلّ ذرائع التوتّر والتطرّف، وإرساء توازن صلب ومستدام، علاوة على إرساء منطق جديد في محاكاة العالم برمّته، مختلف عن المنطق الخشبيّ الذي ساد على مدى المرحلة الماضية.

هذا المنطق تحديداً هو الذي دفع بريطانيا نحو التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقد استخدمت أميركا كلّ ثقلها لتأجيل هذا الاعتراف، ودفع أيضاً عشرات الدول المعروفة بمناصرتها لإسرائيل نحو اعترافات مماثلة، وقد قالت الصحافة الإسرائيلية وكبار الكتّاب في الدولة العبرية إنّ النفوذ المتعاظم للأمير محمّد بن سلمان، والدور الذي تلعبه السعودية على مستوى المنطقة والعالم، هو أخطر ما ستواجهه إسرائيل في المرحلة المقبلة.

المملكة ماضية نحو النهاية. لا يهزّها صوت ولا مقالة ولا تحامل ولا تجريح. هي تدرك تماماً أنّها تضرب عميقاً في المقتل

هذا غيض من فيض التوتّر المفهوم الذي يجتاح أروقة المحور، ويتردّد على ألسنة إعلامه الحربيّ في لبنان، وقد وصل بهم الأمر حدّ رفع الأمير الاستثنائي يزيد بن فرحان إلى مرتبة المفوّض السامي، لأنّهم يدركون أنّ السعوديّة الجديدة، بسياساتها وثقلها وحضورها ونفوذها ومشروعها وأشخاصها، هي حجر الزاوية في إعادة إنتاج المنطقة فوق الركام الذي أحدثته إيران منذ تصدير ثورتها وإطباقها على أغلى عواصم وحواضر العرب.

إقرأ أيضاً: الرّياض تحتضن دمشق: قلب العروبة ينبض من جديد

المملكة ماضية نحو النهاية. لا يهزّها صوت ولا مقالة ولا تحامل ولا تجريح. هي تدرك تماماً أنّها تضرب عميقاً في المقتل. وأنّ الصراخ والعويل وصرير الأسنان لن تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء. أمّا الغبار، فهو يعلو ويعلو ويعلو، لكنّه ما يلبث أن يُساوي الأرض مع أوّل زخة مطر.

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef