
Conséquences du retrait des armes du Hezbollah

سلاح “الحزب” هو الحديث المُتسيّد في لبنان، وقطب الرحى سياسيّاً فيه. تركه بين أيدي حمَلَته تهديد للدولة ونسف لمشروع قيامها وانطلاقها في ممارسة دورها ومهامّها، وتهديد للاجتماع اللبناني برمّته، فهل سحبه تهديد لطائفة بعينها هي الطائفة الشيعية؟
السلاح في لبنان لم يكن يوماً محصوراً بفئة أو طائفة، بل كان أداة متكرّرة لكلّ الطوائف في لحظات ضعف الدولة، أو التنافس على التحكّم بالدولة وأهلها. كلّ طائفة تقريباً مرّت في “مرحلة أهليّة” امتلكت فيها السلاح واستعملته لتحقيق مكاسب أو حماية ذاتها، لكنّها كلّها، مع الوقت، دفعت أثماناً باهظة من موقعها ودورها.
التواريخ الأهليّة للطوائف اللبنانية كافّة تقول باليقين العقليّ والسياسي إنّ سلامة أيّ طائفة لا تكون باحتكار العنف والقوّة على حساب الدولة. تقول أيضاً إنّ السلاح وبال على حامله، يزيد على “قوّته” ضعفاً، وما أكثر الأمثلة والشواهد. بالسلاح، حاول الموارنة أن يقوّوا موقفهم ويدافعوا عن مكاسبهم وهيمنتهم، فكانت النتيجة العكس تماماً، فلقد خسروا كلّ شيء ولم يبقَ لهم إلّا الذكرى.
السّلاح مقتلة الطّوائف
قاد السلاح الموارنة إلى تصفية رموز فيهم، وبسلاح مارونيّ لا غير، كما حصل مع طوني فرنجية في 13 حزيران 1978، ولاحقاً داني شمعون في 21 تشرين الأوّل 1990. أكثر من ذلك، قاد السلاح والتسلّح بشير الجميّل إلى حتفه، فاغتيل في 14 أيلول عام 1982، وانتقل شقيقه أمين إلى منفاه الباريسي خريف عام 1988. وذهب سمير جعجع إلى السجن في 21 نيسان 1994، بعدما نُفي ميشال عون إلى باريس. والاثنان جعجع وعون قادا طائفتهما إلى الجحيم إثر انفجار الغيتو المسيحي بأسلحته تحت ما عُرف “حرب الإلغاء”. هكذا قاد السلاح الطائفي الموارنة إلى هامش الحياة السياسية في لبنان لعقود خلت.
لدى مناصري “الحزب”، يُعدّ السلاح امتداداً لتجربة تاريخية من التهميش والتهديد
أمّا الدروز فقد ذهبوا مذاهب شتّى “لحماية وجودهم من تهديدات افتراضيّة”، كانت وسيلةً إلى الغلبة على الدولة بواسطة السلاح. محاولة احتكار العنف والقوّة قادت الدروز أيضاً إلى مقتلة، وإلى هامش سياسي آخر. اغتيل كمال جنبلاط وهو في أوج قوّته وذروة تسلّحه في 13 آذار 1977، وهو ما دفع نجله وليد إلى شنّ حرب ليستعيد الزعامة في الجبل.
وبين الدروز والموارنة، اغتيل حسن خالد، ولاحقاً عام 2005، اغتيل رفيق الحريري. صحيح أنّ الراحلين لم يحملا السلاح لكنّهما قُتلا جرّاءه، وكان قتلهما لمصلحة سلاح طائفي ومشروع سياسي. قوّة الطوائف في لبنان من قوّة الدولة، وكلّ قوّة مستمدّة من غيرها تقود صاحبها إلى حتفه وما أكثر التواريخ والمحطّات.
حتّى “الحزب” اليوم لم يجلب عليه السلاح والتسلّح إلّا الويلات والنكبات، بدءاً ممّا عُرف بحرب “إقليم التفّاح” أو “حرب الأخوة” مع حركة أمل وآخِرة نكبات سلاح “الحزب” كانت اغتيال أمينه العامّ الأسبق حسن نصرالله في 27 أيلول 2024، والصفّ الأوّل من قادته، وربّما الثاني أيضاً، علاوة على استباحة إسرائيل استهدافه وعناصره.
سلاح “الحزب” والطّائفة الشّيعيّة
لطالما شكّل سلاح “الحزب” محور الجدل السياسي والأمنيّ في لبنان، بين من يراه حامياً من الاحتلال ومن يعدّه سلاحاً خارجاً على الدولة ويهدّدها مع أهلها ومواطنيها. في وسط هذا الجدال يبرز سؤال شائك: هل يشكّل سحب سلاح “الحزب” حقّاً خطراً وجوديّاً على الطائفة الشيعية في لبنان؟ الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون وافيةً إلّا إذا كانت إجابةً شافيةً عن أسئلة أوسع من قبيل: هل يحمي السلاح الأحزاب في لبنان؟ هل يحمي الطوائف؟ وفي وجه من؟ أو ضدّ من؟ وهل حمل السلاح فعل آنيّ مرتبط بظروف وأسباب معيّنة ومحدّدة، أو هو نتاج ثقافة سائدة عند البيئة الشيعية التي تعدّ السلاح “زينة الرجال” كما قال يوماً الإمام المغيّب موسى الصدر، الأب الروحي للثنائي الشيعي؟
ليس التحدّي الحقيقي في “نزع السلاح” بحدّ ذاته، بل في إقناع الطائفة الشيعية بأنّ أمنها وكرامتها لا يُصانان بمنظومة عسكرية موازية
لدى مناصري “الحزب”، يُعدّ السلاح امتداداً لتجربة تاريخية من التهميش والتهديد، ولا سيما “في ظلّ غياب دولة قادرة وموثوقة”. فهو، بالنسبة لهم، الضمانة التي حمت الجنوب والبقاع والضاحية من اعتداءات إسرائيل، ومن تكرار تجارب الحرب الأهلية. أمّا في المخيال الجمعي للبيئة الشيعية، فقد تحوّل السلاح إلى رمز كرامة واعتزاز، لا يمكن فصله بسهولة عن الهويّة السياسية والأمنيّة للمجتمع الذي نشأ فيه.

غير أنّ هذه الرواية لا تخلو من التحدّيات. فالسلاح، كما يراه خصوم “الحزب”، لم يعد فقط وسيلة مقاومة، بل تحوّل إلى أداة ضغط داخلي، ترسم التوازنات السياسية بالقوّة، وتفرض إرادات في الاستحقاقات الكبرى، من رئاسة الجمهورية إلى تشكيل الحكومات، وصولاً إلى خيارات الحرب والسلم. في هذا الإطار، يُطرح سؤال آخر: هل السلاح هو من يحمي الطائفة، أم يعرّضها للاشتباك الدائم مع باقي المكوّنات اللبنانية ومع الخارج؟
يكتسب الحديث عن خطر “وجوديّ” بعداً رمزيّاً أكثر ممّا هو واقعي. فالطائفة الشيعية، بتاريخها وعمقها الديمغرافي، وشبكة علاقاتها داخل الدولة، لا يمكن اختزال وجودها أو مصيرها ببندقيّة. ذلك أنّ الإصرار على ربط الكينونة الطائفية بسلاح حزبي هو تقزيم لمكانتها، وتحويل لها من شريك مؤسّس في الوطن إلى جماعة تُختصر بمشروع عسكري ـ سياسي. والأسوأ، أنّه يُبقيها رهينة صراع دائم مع الداخل والخارج، ويعزلها عن التفاعل الطبيعي مع بقيّة اللبنانيّين.
ليس التحدّي الحقيقي في “نزع السلاح” بحدّ ذاته، بل في إقناع الطائفة الشيعية بأنّ أمنها وكرامتها لا يُصانان بمنظومة عسكرية موازية، بل بدولة عادلة وقويّة، يشعر فيها الجميع، دون استثناء، بأنّهم شركاء حقيقيّون، لا أعداء محتملون.
عود على بدء: هل سحب السلاح من “الحزب” تهديد وجوديّ للطائفة الشيعية؟
مؤسّسات الدّولة طائفة معادية!
أبعد من ذلك، حتّى يوم كان السلاح ظاهريّاً حكراً على الدولة اللبنانية ومؤسّساتها العسكرية، صُنّف طائفيّاً. “وطنيّته” يومها كانت ضدّ “القوميّة”. كانت ضدّ طوائف أخرى. كان سلاحاً “مارونيّاً” بالنسبة إلى كثيرين كانوا خارج دوائر صنع القرار. كان الجيش “مارونيّاً” لأبناء الطوائف الأخرى. كان فئويّاً لفئات كثيرة كانت خارج “جنّة” الحكم، ولم تكن مؤثّرةً في صنع القرارات ورسم السياسات.
حتّى يوم وصل اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الحكم وبنى يومها ما نفاخر به اليوم على أنّه “مؤسّسات” و”دولة”، اصطفّت ضدّه الطوائف كلّها، بقضّها وقضيضها، ولم يجد من يدافع عنه أو يقف في صفّه، من “الحلف الثلاثي” (1968)، أي من زعماء الموارنة كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّه، إلى زعماء الطوائف الأخرى، في “تكتّل الوسط” (1968) كامل الأسعد وصائب سلام ومعهم سليمان فرنجية… ونجحوا في كسره والقضاء على مشروعه عام 1970، يوم أوصلوا سليمان فرنجية إلى سدّة الرئاسة، وراحوا يفكّكون المنظومة الأمنيّة وفي مقدَّمها المكتب الثاني، فقضوا على آخر مشروع لبناء دولة في لبنان، ودخلنا زمن “شيوع” السلاح “رسميّاً” وتفلّته وانتشاره على كامل الـ10,452 كلم2، بعيداً عن مؤسّسات الدولة وأبنائها.
نجح… لم ينجح
هل حقّق “سلاح” “الحزب” المطلوب منه؟ هل ردع إسرائيل أو أوقف اعتداءاتها؟ هل حرّر الأرض؟ أكثر الإجابات تأييداً لهذا السلاح، تجيب بنعم ولا في آن. نعم نجح في بعض المحطّات في ردعها وتحرير جزء من الأرض، لكنّه لم ينجح في ذلك بالمطلق. باختصار، كان ينجح حيناً في المهمّة المحصورة فيه، ويخفق أحياناً كثيرة. لم ينجح بين 25 و31 تمّوز 1993. ولم ينجح بين 11 و27 نيسان 1996، ولم يفعل في تمّوز عام 2006، ولا في حرب الإسناد والمشاغلة الممتدّة من 8 تشرين الأوّل 2023 حتّى 27 تشرين الثاني 2024.
السلاح في لبنان لم يكن يوماً محصوراً بفئة أو طائفة، بل كان أداة متكرّرة لكلّ الطوائف في لحظات ضعف الدولة
عود على بدء: هل سحب السلاح من “الحزب” تهديد وجوديّ للطائفة الشيعية؟
إقرأ أيضاً: نعيم قاسم … نصر بلا كلفة ونفوذ بلا مساءلة
نظرة سريعة إلى تاريخنا المشترك في هذا الوطن الصغير تقول إنّ السلاح كان نذير شؤم ووبالاً على حَمَلَته. فالطوائف التي تسلّحت في أوج قوّتها لتصير أقوى، وتوسّلت السلاح لتحقيق غلبة ما على شركاء الوطن، انتهت إلى ضعف شديد وتهميش مزمن. طائفيّاً، الدروز والموارنة والشيعة خير أمثلة على ما سبق. سياسياً، الحركة الوطنية. فهل يتّعظ “الحزب” وبيئته؟
لمتابعة الكاتب على X: