أميركا للشّرق الأوسط: لن نكون هنا دائماً

Les USA Moyen-Orient : « Nous ne serons pas là continuellement »

Par Mouaffac Harb (AssasMedia)

عادت الولايات المتّحدة كتابة قواعد تعاملها مع العالم، لكن هذه المرّة لم يعد الشرق الأوسط يتصدّر الاهتمام. مع إعلان الرئيس دونالد ترامب “استراتيجية الأمن القوميّ” في 5 كانون الأوّل، وجّهت واشنطن رسالة واضحة تقوم على إعادة التموضع: انسحاب تدريجيّ من الالتزامات المفتوحة عبر العالم لمصلحة عقيدة تتمحور حول “البقاء والسيادة والقوّة”، وكما يقول النصّ “في كلّ مبدأ وكلّ فعل، يجب أن تأتي أميركا، والأميركيّون، أوّلاً”.

تركت هذه المقاربة الجديدة موجات من القلق عبر عواصم العالم، خصوصاً لدى الدول التي طالما اعتبرت الولايات المتّحدة شريكها الأوّل الذي لا غنى عنه. غير أنّ وقع هذا التحوّل يبدو أكثر غموضاً، وربّما أكثر خطورة، في الشرق الأوسط.

التّحوّل إلى الواقعيّة

الوثيقة هي بمنزلة المخطّط الناظم لأولويّات واشنطن الأمنيّة، ومرجع أيديولوجيّ يوجّه الدبلوماسيّة والإنفاق الدفاعيّ. تحمل توقيعاً صريحاً: انتهاء مرحلة القيادة الأميركيّة الواسعة وتحوّلها إلى “واقعيّة تقوم على مبدأ أميركا أوّلاً”.

يعود التركيز إلى النصف الغربيّ من الكرة الأرضيّة: الهجرة، مكافحة تهريب المخدّرات وحماية الحدود التي تتقدّم على الانتشار العسكريّ البعيد. تؤكّد الوثيقة: “ستُعيد الولايات المتّحدة فرض وتطبيق مبدأ مونرو لاستعادة تفوّقها في نصف الكرة الغربيّ، وحماية الوطن والوصول إلى الجغرافيا الحيويّة في المنطقة”.

أمّا المؤسّسات الدوليّة، التي كانت تُقدَّم سابقاً أركاناً للاستقرار، فتُصوَّر الآن جهاتٍ مقيِّدةً للسيادة الوطنيّة و”محمّلةً بالنزعات العابرة للحدود”، مع انتقادات جارحة لأوروبا بوصفها قارّة في “حالة تراجع حضاريّ”.

وسط هذا التحوّل، يظهر الشرق الأوسط، الذي كان لفترة طويلة مركز الثقل الأمنيّ الأميركيّ، منطقةً تريد واشنطن الابتعاد عنها لا إدارتها

وسط هذا التحوّل، يظهر الشرق الأوسط، الذي كان لفترة طويلة مركز الثقل الأمنيّ الأميركيّ، منطقةً تريد واشنطن الابتعاد عنها لا إدارتها. بالنسبة لمنطقة شكّلت مسار كلّ إدارة أميركيّة منذ اعتداءات 11 أيلول، يبدو التغيير واضحاً. يشير المحلّلون إلى أنّ الاستراتيجية تُقرّ بوجود “لحظة مفصليّة” في الشرق الأوسط، لكنّها لا تقدّم التزامات عمليّة أو موارد تُذكر.

ملامح السّياسة الجديدة

تبرز ملامح سياسة جديدة تقوم على:

– بصمة أخفّ ووجود عسكريّ أقلّ.

– انخراط انتقائيّ عبر الشركاء.

– صفقات دفاعيّة أكثر من ضمانات سياسيّة.

أميركا

يقول النصّ بوضوح: “ولّت الأيّام التي كان الشرق الأوسط يهيمن فيها على السياسة الخارجيّة الأميركيّة، ليس لأنّه أصبح أقلّ أهميّة، بل لأنّه لم يعد مصدر الخطر الآنيّ والفوضى الدائمة كما كان”. لكنّ نجاح هذه المقاربة مشروط بثقة الشركاء، وهي ثقة تآكلت كثيراً.

لا تزال المنطقة حقلاً للألغام: من خطر المواجهة بين إسرائيل وإيران، إلى الاحتكاك على الحدود السوريّةـ اللبنانيّة، إلى حرب اليمن التي لم تُطفأ بعد، إضافة إلى غزّة والسودان واليمن. لذلك تقليص الدور الأميركيّ قد يشجّع قوى محليّة أو دوليّة على ملء الفراغ بطرق قد تكون مكلفة على الجميع.

الرسالة في الاستراتيجية إلى الحلفاء صريحة: إمّا تحمّل مسؤوليّات أكبر، أو قبول دعم أقلّ. تلفت تقارير غربيّة إلى أنّ أوروبا تُقدَّم في الوثيقة “عبئاً” غير قادر على حماية حدوده أو هويّته. أطلق هذا الخطاب مخاوف عميقة: حتّى الدول التي راهنت على نهج ترامب، خصوصاً في الخليج، بدأت تتساءل: هل تصمد الالتزامات الأميركيّة أمام الصدمات السياسيّة وتبدّل الإدارات وتقلّبات الداخل الأميركيّ؟

يقول مستشارو ترامب إنّ الاستراتيجية تعبّر عن “واقعيّة مرِنة” تعترف بأنّ التزامات أميركا الواسعة استنزفت اقتصادها وجيشها

بالنسبة لكثيرين، ما يسمّيه البيت الأبيض “تقاسم الأعباء” يبدو أقرب إلى “تحميل العبء للآخرين”. يقول مستشارو ترامب إنّ الاستراتيجية تعبّر عن “واقعيّة مرِنة” تعترف بأنّ التزامات أميركا الواسعة استنزفت اقتصادها وجيشها. يرى مؤيّدو هذا النهج أنّ الولايات المتّحدة ليست ملزمة بتمويل أمن أوروبا أو ضبط الشرق الأوسط من دون مقابل واضح.

لكنّ المنتقدين يرون العكس: أيّ تراجع استراتيجيّ سيفتح المجال أمام الصين وروسيا لتوسيع نفوذهما في الفراغات التي تتركها واشنطن خلفها. يحذّر خبراء من أنّ لغة القوّة التي تتحدّث بها الوثيقة قد تُضعف في الواقع التحالفات والردع، وإذا تشكّك الحلفاء في الدعم الأميركيّ فسيبحثون عن بدائل، والبدائل عادة ما تقود إلى صراعات جديدة.

ظروف مضطربة

يأتي هذا التحوُّل في لحظة إقليميّة شديدة الاضطراب:

– صراع ظلّيّ مفتوح بين إسرائيل وإيران.

– لبنان على حافة الانهيار السياسيّ والاقتصاديّ.

– سوريا ساحة نفوذ متصارِعة.

– توتّر دائم في غزّة والضفّة بلا أفق سلام.

– اليمن لا يزال فتيل حرب قابلاً للاشتعال.

– السودان لا يزال يشهد حرباً كارثيّة.

على مدى عقدين، كان الافتراض السائد أنّ واشنطن، سواء عبر الحروب أو الوساطات، هي الضامن الأخير للاستقرار. اليوم، هذا الافتراض يتكسّر. السؤال: هل تتعامل القوى المحلّية بمسؤوليّة أم يفتح “انسحاب” أميركا سباقاً على النفوذ أكثر خطورة؟

تبدو الوثيقة انعكاساً لانشغال أميركيّ متزايد بهموم الداخل: الهجرة، الوظائف، حماية الحدود والحمائيّة الاقتصاديّة. لم يعد الشرق الأوسط المكان الذي تُحدّد فيه واشنطن مصيرها.

لكنّ التاريخ يذكّر: الشرق الأوسط لا يعترف بخطط الانسحاب. الإرهاب، صدمات الطاقة، موجات النزوح، أو خطأ تقدير واحد، كفيل بإعادة الولايات المتّحدة إلى قلب العاصفة حتّى لو أرادت الابتعاد.

إلّا أنّ ما هو واضح هو التالي: للمرّة الأولى منذ جيل كامل، تُقال للشرق الأوسط رسالة صريحة: أميركا لن تكون دائماً هنا

غالباً ما تكون استراتيجيات الأمن القوميّ رسائلَ سياسيّة أكثر من كونها خططاً مُلزِمة. وسيتوقّف كون هذه العقيدة ستُعيد رسم النظام العالميّ أو تعكس فقط لحظة سياسيّة عابرة على ميزانيّات وقرارات وأزمات لا يمكن التنبّؤ بها.

إلّا أنّ ما هو واضح هو التالي: للمرّة الأولى منذ جيل كامل، تُقال للشرق الأوسط رسالة صريحة: أميركا لن تكون دائماً هنا.

إقرأ أيضاً: ترامب وحده قادر على وقف الحرب

كيف ستتفاعل المنطقة مع هذه الرسالة؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تحدّد شكل الأمن العالميّ في العقد المقبل، أكثر بكثير ممّا هو مكتوب في أيّ وثيقة تصدر من واشنطن.

@mouafac