« تعيين مُحافظ ؟ أين عملية بناء الثقة يا سادة ؟! لا زالت السياسة المُحاصَصِيّة تُفْسِد كل شيء في لبنان » بقلم المحامي كارول سابا
البلد يُنهار واُفلِسْ وتم إفقار الجميع، والقيادات السياسية تَتَنَاتَش التعيينات بالمُحاصَصَة، مُستعمِلين إحدى الطوائف الكبرى، الرائدة، الارثوذكسية، ومُستفدين من ضعوفاتها الحاليّة وتناقُضاتِها، كوقود لتنافُسِهم وكمَلعب وغَطاء لتمرير مَصالحهم. ويأتيك من يبدأ التهاني على صفحات التواصل دون ان يبدأها لتعيينات لم تصدُر بعد، وقبل ان يتم التعيين … هل طق الزمبرك في بلادي ؟ حتى عند النخبة التي نُعَوِّل عليها لرفع البلد من كبوته ؟ شو هالبلد وشو هذه السياسة التي تُفْسِد كل شيء !
قد يخرج الدخان الابيض عن مجلس الوزراء، وقد لا يخرج لتعيين محافظ لمدينة بيروت. كون شد الحبال لا يزال مُستمر. لا هَمّ هذه مصالحهم ومُحاصصاتهم. الهَمّْ المُواطني، هو في مشكلة هذه الهمروجة منذ اسبوع واكثر حول هذا الموضوع. الدخان الابيض ؟ بالاحرى هو دخان رمادي، وكأننا في هذه المشهدية نتكلم عن تعيين « باش كاتب » في إمارة هذا الزعيم او ذلك. هذه بيروت أم الشرائع يا سادة، هذه بيروت أم الدنيا، هذه بيروت مُصَدِّرة الشِعْر والشَرْع ! همروجة من مستوى مُتدنِّي منذ اسبوع واكثر، في الإعلام وخارج الإعلام، وفي كواليس السياسة حول هذا الموضوع. نحن نراقب ونَقرا، من الاعلام. من تركيب ملف ضد المحافظ الحالي، ومن ثم سحب الملف والتأكيد، في أعلى المراجع، ان الملف فارغ. ثم ضرب سمعته في الإعلام والإشاعات، ومن ثم التفتيش له عن مركز رفيع يليق به، ترضية لتنحيه عن الكرسي! اسماء مُتداولة وكلها مَدعومة سياسيا ومَحْسوبة على هذا او ذلك من الزعماء. صلابة بالمواقف وتشدُّد رفيع المستوي، يُرافقه كلام غير لائق بالارثوذكس لمصلحة مرشح مدعوم… ومن ثم سحب هذا المُرشح (وكأن هذا المنصب الرفيع في الدولة الذي هو لخدمة الناس تَتِمّ عليه المُناقصات السياسية والترشيح). ومن ثم، بعد تَعْليَة الصوت، « تَوافُق » جمهوري على اسم من بعض، دون البعض الآخر، مما جعل هذا البعض الآخر مُمتعِض ومُعارِض للتسوية التي تمَّت بدونه. بازار مفتوح حول مركز المحافظ تَنَاتُش وتَضارُب وسَحب أسماء وإنزال أسماء بالباراشوت واخراح اسماء بالخط العسكري … ! وكلو على عينك يا تاجر وكل الاسماء مَحسوبة سياسيّا على هيدا او على هيداك من الزعماء. وكيف بَدَّك تصدق انو مَن سينزل بالبارشوت هكذا، وإن كان على مناقبيّة و مِصداقية شخصيّة، سيكون مّنَزَّه عن من انْزَلَهُ بالباراشوت !؟ وانه سيكون كما يُسمِّى الانكليز كبار رجال الدولة بال ( civil servant ) اي الخادم المُنَزَّه عن السياسة والسياسيين، وخادم فقط للمصلحة العامة المدنية دون تداخل ومحسبويات؟
وتتكلم الصحافة عن تفاصيل صراع كل الافرقاء فيما بينهم حول تقاسم هذه « الجبنة » كما أسماها الرئيس اللواء فؤاد شهاب، الذي كان يعرف عيوب كل السياسيين في لبنان فاسماهم بأكلة الجبنة، فحاربوه وقضوا عليه، وعلى لبنان ، منذ سنوات القرن الماضي، ولا يزالوا… ويتغنَّى البعض بصلابة هذا او ذلك؟ في فرض رأيه؟ في تعيين هذا او ذلك… ؟ اين العملية الإدارية والآلية الشفافة في هكذا تعيين، التي تمنع كل تضارب مصالح ( conflit d’intérêts )، لكي لا يأتي المُعَيَّن بتمْنين من المُعَيِّنْ، ويَخضع له ؟
نعم يا سادة، المشكلة ليست بمناقبية ومصداقية الشخص الذي سَتُيعينوه. المشكلة في طريقة تعيينه. اي ما يسمى في علم الإدارة « بالتعيين المَصْلَحِي »، الذي يدور حوله الشبهات والذي يُقيِّد الشَخص المُعَيَّن بإلتزامات « حفظ الجميل » لمن عيَّنه ! اين عملية « بناء الثقة » من كل هذا ؟!!
ثم يأتيك من يقول لك، انت تعيش في الغربة في فرنسا، نحن نحبُّك، نحن نعترف انك رجل مبدئي ورجل مباديء ورجل فكر ورؤية… ولكنك تتكَلَّم بمثالية لا تنطبق على لبنان … الفاقد لكل مثالية… مع احترامي لهم ومحبتي لكلماتهم، اننا كوننا في الغربة وفي باريس نتكلم بمثالية بعيدة عن ارض الواقع … لا … نحن نعلم بأدق التفاصيل ونشعر بألم أحبائنا وأهلنا في لبنان ونعرف كل التفاصيل اليومية السياسية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية وقد يكون لنا، كوننا لسنا في الدائرة، دائرة الدَوَّامة، قراءة فيها تمييز ووعي لا بد منها للمساعدة على رفع لبنان من كبوته، ومن هذه الجورة التي وضعوه فيها. وهذا ما فعله اباؤنا عند النهضة العربية. فالنخبة التي تكَلَّمَت ونشَرت ووَعَّت وحَفَّزت وأسَّست للنهضة العربية في بداية القرن العشرين، كانت في الغربة، في مصر وفي فرنسا و بلاد اخرى. فاوّل رئيس جمهورية للبنان الارثوذكسي شارل دباس، درس الحقوق في اليسوعية في بيروت وتعلم واشتغل كمحامي وعاش في مونبيليه في فرنسا قبل ان يتوافق على علمه ومِصداقيته الجميع ويرفعونه كأول رئيس للجمهورية اللبنانية في ١٩٢٦. نعم نحن نعرف انه يجب الانطلاق من أرض الواقع الى ارض الرجاء … لكن يجب أن نضع بنصب اعيننا « ارض الرجاء » لكي لا يضيع الرجاء ويغرق في اوحال ارض الواقع والسياسة كما هي الحال اليوم. المِثاليّة المُفرِطَة خطر، والواقعيّة المُفرِطَة خطر اكبر.
نحن نريد مُحافظ ليس فقط لبيروت بل لكل لبنان، وليس فقط للارثوذكس، بل لكل المواطنين في العاصمة وابعد من جغرافيتها. نحن نريد مُحافظ نموذجي، يكون بداية نقلة نوعية لمُحاربة الفساد وإستقامة الرأي والفعل، ولا يخاف ان لا يأتوا له بالملفات ليضع الاصبع حيث الجرح، بل يقتحم الملفات بالحق والحقيقية القضائية . نحن نريد محافظ منزَّه عن السياسات والاحْزاب، وليس له « جميل » على هذا الزعيم او ذلك. نريد محافظ يكون صورة عن رجال الدولة الكبار، مناقبية وعلم وجرأة لمُجابهة كل المنظومة السياسية الطائفية التي تعْبَث بلبنان وتُسقط حلم وطن الرسالة. قد يكون احدهم، ونحن لا نعرفهم، على هذه المقابيس من المصداقية والموضوعية والعلم. لكن طريقة تعينه تُقيِّدُه وتُلزمه.
المشكلة في لبنان ليست فقط بالسياسيين … التعينات لم تتم بعد وبدا المصلحيون بالتهنئة وتبيض الوجوه… المشكلة هي في هذا الشعب « الزاحف » المُتَمَلِّق الخَدَّاع الذي لا يزال في منطق التبعية للاقطاع القديم والجديد، منطق الزعيم، وليس منطق المواطنة. المشكلة هي في هذا الشعب كونه تابع لمنطق الإقطاع، لا يزال يُتاجِر بكل شيء، ويسمح بأن يُتاجر به …