هل تحكم إسرائيل لبنان القبائل؟

كتب رؤوف قبيسي في النهار

هل لبنان شعب واحد موحد؟ سؤال يقتضي واقع الحال الرد عليه بصيغة نفي تترك في كل نفس وطنية، شعوراً من الحزن والأسى، ذلك لأنه لم يحدث أن مر زمن على اللبنانيين، كانوا فيه شعباً واحداً موحداً. كانوا طوائف وقبائل، تتنافر أحيانا، وأحياناً تتصالح، وكان تصالحهم يتم بعقود اجتماعية، لا تلبث أن تنتهي صلاحيتها كلما ألمت بهم مصيبة، فيذهب كل فريق في طريقه، ويتفرقون شيعاً ومذاهب، حتى صار من المتعذر أن يقال عنهم إنهم « شعب واحد »، بالرغم من أنهم يتشاركون في كثير من الأمور. لن نذهب في البحث التاريخي لنتبيّن كيف كانت هوية الطوائف اللبنانية زمن العثمانيين، وفي السنوات الأولى بعد قدوم الفرنسيين، هذا بحث يفتح باباً من الحوار يصعب إغلاقه، أو الوصول من خلاله، إلى نتيجة ترضي جميع الفرقاء؛ أصحاب الفكر القومي،ورجال الدين، والمؤرخين، والناظرين في علم السلالات. نكتفي بالنظر في لبنان وشعبه، من يوم قامت دولة لبنان الكبير على يد فرنسا، الدولة المنتدبة عليه وعلى سوريا. لكن لا بد قبل أخذ النظر بعيداً في وضع لبنان كوطن ومواطنين، الإشارة إلى أمر هام يطمئن اللبنانيين، ويجنًّبهم الخوف من المستقبل، وهو أن لبنانهم، ليس البلد الوحيد في الشرق الأدنى والعالم، الذي يعاني الفروقات. هناك دول كثيرة في القارات الخمس، ومنها التي في أوروبا، فرنسا، بلجيكا، إسبانيا وسويسرا مثلا، تختزن روحها فروقات دينية ولغوية وعرقية وثقافية، أكثر تعقيداً مما في الروح اللبنانية بكثير، مع ذلك تراها مستقرة، المواطن فيها « مكتمل الفردية « ، يفتخر بوطنيته أو قوميته، لا يعبث بها، أو يساوم عليها، ولا يتاجر بها أو يبيعها للغريب! الفارق بين هذه الدول وبين لبنان، أن تلك البلاد دول وأوطان، في حين أن لبنان بالنسبة إلى أهله وطن يحبونه ويعشقونه، لكن لم يصل بعد إلى دولة جدّية تحميهم، وتصون حاضرهم ومستقبلهم، ويكون ولاؤهم لها، لا للأحزاب والطوائف. هذا هو في الحق ميسمُ الضعف الأساس، الذي يمنع اللبنانيين من أن يكونوا متجانسين.

ولد لبنان في العام 1920، وفي العام 1943 نال « استقلاله »، فإذا « الوطنيون » من حكامه، أهانوا الدولة وعبثوا بالاستقلال، وعندما خرجت من بين أبنائه يوم 17 تشرين 2019، أصوات شابَة نيَرة، تنشد التغيير وتدعو إليه، واجهها أعيان النظام بالسلاح والاتهامات وأسكتوها. مهما يكن، اللبنانيون على اختلاف طبقاتهم يتوقون إلى العيش في دولة عادلة ذات سيادة، لكن غياب هذه الدولة من حياتهم، حال دون تحقيق هذه الأمنية الغالية على قلوبهم، وحين تغيب الدولة، يتلاشى الشعور الوطني، ويتحول الولاء للطائفة ولزعيم الطائفة، وقد دلّت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، على هذه التبعية المؤلمة المتحكمة بضمائر اللبنانيين، عندما أعادت الخراف الضالة رعيانها الكبار إلى كراسي الحكم، رغم أن سياسة هؤلاء الرعيان، أفقرتهم وحولت بلدهم إلى واحد من أسوأ البلدان في العالم. ماذا يعني ذلك كله؟ هل يعني أن المواطن اللبناني مصاب بمرض الانفصام؟ يحتاج الرد على هذا السؤال، إلى دراسة دقيقة متأنّية، تأخذ في الحسبان علم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الأديان، وأثر ذلك في الشخصية اللبنانية. إذ كيف يُعقل، أن يعيد مواطنون، انتخاب زعماء أوصلوهم إلى الحضيض، وفي العالم شعوب كثيرة، تحاسب حكامها على كل صغيرة وكبيرة، تسقطهم في الانتخابات والاستفتاءات متى اقتضت الحاجات، حتى لو كانوا قد حققوا لهم الأمجاد والانتصارات. نذكر على سبيل المثل، ديغول الذي رفض الشعب الفرنسي برنامج الاصلاحات الذي تقدم به، في استفتاء العام 1968، فجاءت النتائج عكس ما أمل جنرال الاستقلال، فترك الحكم والعاصمة، وأمضى بقية حياته في بلدة نائية في الريف الفرنسي. نذكر أيضاً، ونستون تشرشل، وكيف اسقطه شعبه في انتخابات ما بعد الحرب، سنة 1945. الأمثلة على ذلك كثيرة وفي كثير من البلدان، حتى في إسرائيل، التي تليق بها كل أشكال النقد، استقال رئيس وزرائها إسحق رابين عام 1977، بسبب حساب مصرفي مسجل باسمه واسم زوجته، في أحد مصارف العاصمة الأميركية واشنطن، علما أنه كان يُعتبر بنظر شعبه « ملك إسرائيل ». أما في لبنان، فالحال مختلفة، بل مختلفة جداً ويا للأسف، لكن السؤال حياله وحيال بنيه يبقى مطروحاً: ما الذي يجعل اللبنانيين يعيدون إلى الحكم، زعماء فاسدين فاشلين؟ هل هذا ضرب من الجنون، وإذا كان جنوناً، فما أسبابه؟                                   

 نظرة دقيقة في هذه الظاهرة اللبنانية الغريبة، تظهر علَّتين في عقل المواطن اللبناني ووجدانه؛ علة في اللاوعي (Deep Subconscious illness)

وعلة »عبادة الشخصية »

(Personality Cult).

الأولى ينمو مفعولها ويتراكم، من يوم دخول المواطن طفلاً في مدرسة، إلى حين تأخذه المنيّة. هذه العلة تُعيق فردية المواطن، فلا تصير « كاملة » كما هي كاملة عند المواطن الأوروبي مثلاً، هذا يرى السياسي في بلده يخطئ، فيثور عليه فيستقيل، وقد ينتهي مستقبله السياسي، بخلاف الحال في دول كثيرة من العالم الثالث، يفسِد الحاكم فيها وينهب، ويقتل ويبقى في الحكم، ولبنان نموذج، شعبه لا يزال تحت حكم « زعماء » ملطخة أياديهم بدماء الناس، و »الزعيم » فيه يحميه البسطاء، ونظام طائفي قبلي، حتى لو ارتكب الفساد والموبقات والمجازر! يقودنا هذا الفهم إلى العّلة الثانية، « عبادة الشخصية »، وهذه تبقي المواطن متصلاً بزعيمه، رابطا مصيرُه بمصيرِه، حتى لو بلغ الحرمان به حد الجوع!  بوجود هاتين العّلتين، لا يمكن أن يصل شعب إلى الحرية، وقد دخلت الفرق اللبنانية بسببهما في تجارب صعبة، وفي حرب أهلية طاحنة. هاتان العّلتان تفقدان المواطن إرادته الحرة، فيصبح كما النعجة أمام جزّارها، وطبيعة الأحزاب اللبنانية، تظهر هذه الحقيقة المرة في أجلى صورة. « حزب الله » مثلاً، مناصروه والمنتمون إليه من « الشيعة »، والمنتمون إلى « الحزب التقدمي الاشتراكي » من « الدروز »، وأنصار « حزب القوات اللبنانية »، معظمهم « موارنة »، وأنصار حزب « التيار الوطني الحر » كلهم، أو معظمهم « موارنة »، و »حزب الكتائب »، معظم أتباعه « موارنة » أو « مسيحيون »، وحركة « أمل »، أنصارها والمنتمون إليها من « الشيعة »، اما « تيار المستقبل »، فغالبية أنصاره من « السّنة ».

اعتذر عن إطلاق هذه التصنيفات مثل « درزي » و » شيعي » و »ماروني » وما شابه. أضعها بين « علامات الازدواج »، لأن لا معنى لها من الوجهة الروحية، وهي قائمة على الكذب والنفاق، ولأنها فوق ذلك كله، تصنيفات تقسيمية عنصرية تأنفها كُل نفسِ وطنية حرة، إذ ليس كل مواطن مسجل في القيد الطائفي على أنه « مسلم »، هو مسلم حقاً، وليس كل من هو « مسيحي » في القيد مسيحي حقاً. هذا يعني أن الأحزاب اللبنانية أحزاب طائفية وليست أحزاباً وطنية، ويستحيل أن تكون وطنية، هي تقسيمية وجائرة وضد الوطن والمواطن. هذا النفاق في بنية هذه الأحزاب يتعدى الوجهة الدينية، إلى الوجهة السياسية أيضاَ، فأسماء الأحزاب وشعاراتها قائمة أيضا على الخداع والنفاق. كيف يكون « الحزب التقدمي الاشتراكي » اشتراكيا ووطنياً، وغالبية المنتمين إليه من « الدروز »، ورئيسه، وبعض كبار أعضائه من أصحاب الملايين؟! كيف يكون حزب « القوات اللبنانية » حزب دولة، واسمه « حزب القوات »؟ إن الاسم بحد ذاته دلالة حربية، ويناقض مفهوم الدولة المدنية المركزية التي يدعو إليها هذا الحزب. الأمر ذاته ينطبق على « حزب الكتائب »، واسمه جمع لكلمة « كتيبة » وهذه لها أيضاَ دلالة حربية، كما أن غالبية أتباعه « مسيحيون ». هناك أيضاً « التيار الوطني الحر ». كيف يكون هذا الحزب « وطنيا وحراً »، ومعظم المنتمين إليه « موارنة »، أو « مسيحيين »؟ الشي نفسه ينطبق على « تيار المستقبل »، معظم أنصاره من « السنة »، وعلى حركة « أمل » التي معظم أنصارها والمنتمين إليها من « الشيعة ». يُستثنى من هذه الأحكام « الحزب الشيوعي » و « الحزب السوري القومي الاجتماعي »، فهما حزبان علمانيان، لكن « شمولية » الأول، و »سورية » الثاني تنفيان عنهما الصفة اللبنانية الخالصة. أما « حزب الله » فشأن آخر. كيف يمكن أن يكون هذا الحزب وطنياً، والمنتمون إليه كلهم « شيعة »؟ وكيف تكون المقاومة وطنية، إذا كانت « إسلامية »، وفي بلد متعدد الأديان والمذاهب مثل لبنان؟ الإسلام، والأديان عامة، لا تعترف بالأوطان، هي للأمم،وليس في القرآن والأناجيل و »أعمال الرّسل » ذكر لكلمة « وطن »، وليس في العالم العربي كله، رجل دين مسلم تجري على لسانه كلمة « وطن ». الرسالة في الإسلام هي للعالمين، وليست لشعب محدّد في أرض محدّدة، كذلك هي المسيحية. لقد صحّ في الإنجيل قول « المسيح » إنه جاء إلى خراف إسرائيل الضالة، لكن « نبي الجليل » خرج من دائرة المأثور القديم، عندما ردَد أمام اتباعه غير مرة: « قد قيل لكم كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم… »، وفي مكان آخر ختم عالمية الوصية حين قال لتلاميذه: » اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ».

إذا كان النفاق في الدين، هو بُنية هذه الأحزاب، فلا يصح من الوجهة الروحية أو الإيمانية القول عندئذ، إن المنتمين إليها « طوائف » بل قبائل. حين يُعيد المواطن اللبناني زعيما فاشلاً إلى الحكم، فمعنى ذلك أنه يمارس عملاً ضد نفسه وضد وطنه. كذلك فإن زعيم الطائفة، هو الآخر، ومن دون أن يدري، يعمل ضد نفسه وضد شعبه وضد وطنه، وفي هذه الحال الجميع خاسر، والجميع يرتكب فعل الخيانة، وما الفوائد التي يجنيها الزعيم الفاسد، ومن يدور في فلكه من الزبانية والأجراء، إلا فوائد آنية مآل أصحابها الندم في آخر المطاف. مثلهم في ذلك مثل صغار السمك تلتهمها السمكة الكبيرة، أو لقمة سائغة بيد من هو أقوى منهم جميعا، ومن هو أقوى منهم جميعاً، غير عدوهم التاريخي إسرائيل، القبيلة العبرانية المهيأة لتحكم القبائل التي من حولها، لأنها أقوى القبائل وأغناها وأشدها خبثا وذكاء، وأكثرها ارتباطاً بدول ما يسمى بالعالم الحر، هذا العالم الذي لا يرى أحياناً أبعد من أنفه، وتهمه مصالحه الذاتية قبل أي شيء آخر. يظن بعض اللبنانيين، من يطالبون هذه الأيام بالفيديرالية أنهم « واقعيون »، يفعلون ذلك لأنهم يريدون العيش في مجتمع سلم لا مجتمع حرب، ورسالتهم موجهة إلى « حزب الله » خاصة، كأنهم يقولون لهذا الحزب ما معناه: عش وسلاحك حيث تكون، ونحن نعيش حيث نكون! يرتكب « حزب الله » الخطأ الجسيم حين لا يراعي خصوصية المجموعات اللبنانية، أو حين يُخيفها بسلاحه. في مناخ كهذا يثير « حزب الله »، مثله مثل أي حزب ديني، عصبيات الآخرين، فيشتد ساعد « الزعيم » على الطرف الآخر، وتطفو على السطوح دعاوى « الفيديرالية »، علماً أن الداعين إليها، لا يدرون ما يفعلون، لأن الفيدرالية تسري في دولة متمدّنة متحضّرة، ولبنان المشتت، المفكك الأوصال، أبعد ما يكون عن هذه الدولة. هم يعملون ضد أنفسهم وضد بلدهم.  يجهلون حقيقة لبنان وتاريخه، ودروس التاريخ تنبئنا بأن القبائل تنقسم على ذاتها في النهاية، ولا يعود لها وجود، كما حدث لكثير من القبائل والفيدراليات عبر التاريخ، أو تذوب في اتحادات قومية، كما حدث في إيطاليا وألمانيا وغيرهما من الدول. لبنان القبائل المتنازعة، أو المنقسم على نفسه « فيدراليا »، سمن وعسل على قلب القبيلة العبرانية، يؤهلها للسيطرة عليه، فتصبح هي زعيمة القبائل وكبرى القبائل، « قريش الشرق الأوسط »، أو « قريش الهلال الخصيب »، تلجا إليها كل قبيلة لبنانية مُستضعفة، لتحميها من القبائل المعادية. هذا كان حلم الصهاينة في « مؤتمر بال  » عام 1897. ومنذ أن وضع ثيودور هرتزل كتابه « الدولة اليهودية »، والصهاينة يسعون لتكون إسرائيل القبيلة السيدة بين قبائل المنطقة، وهذا ما كان يقوله المؤرخ اليهودي برنارد لويس، وفي اعتقاده أن العرب غير مؤهلين لصناعة الدولة، لأن ليس في تاريخهم إلا ولاءين، للدين أو للقبيلة! منذ عقود غابرة، والصهاينة يخططون بخبث وذكاء، فيما العرب نيام، واللبنانيون منقسمون على أنفسهم، تفرقهم المخاوف، ويمزقهم تعدد الولاءات، سائرون خلف زعمائهم ورجال أديانهم بعماء، ساهون عن يوم قد يطلع الفجر فيه، وتكون القبيلة العبرانية قد استجمعت قواها وسيطرت عليهم جميعاً! هل تدّبر العرب، واللبنانيون، الآية القرآنية التي تقول « والعادياتِ ضَبحاً فالمورياتِ قدحاً فالمغيراتِ صُبحا »؟ إنها في القرآن عن الخيل في الصحاري، إما عند القبيلة العبرانية، فهي الخطة المرسومة والجاهزة دائما ضد أعدائها!

كل ما يفعله اللبنانيون؛ سياسيين ومواطنين ورؤساء أحزاب ورجال دين، خيانة للبنان الدولة والوطن، ولمصلحة عدوهم التاريخي إسرائيل، وهذه لا تزال تحتل أرضاَ لبنانية، وطيرانها يعبث بسماء لبنان، والفلسطينيون فيه لاجئون، محرومون من دولة فوق أرضهم التاريخية، هذا فضلا عن أن بنيان هذه الدولة العبرية قد قام أصلاً على الإكراه وسلب أرض شعب بريء، تحت شعارات تتناقض وحقائق التاريخ، وتقوم على أساطير وخرافات دينية لا أساس لها. وجود هذه الدولة يناقض وجود لبنان، ووجود لبنان يناقض وجودها، لذلك يتعين على لبنان أنلا يعترف بها، حتى لو اعترف العالم كله بها. في النهاية يبقى السؤال: هل بمقدور لبنان أن يحمي نفسه من إسرائيل، ويفضحها ويجعل من قوتها العسكرية ترسانة حربية لا قيمة لها؟

قد تستغرب أيها القارئ الكريم هذا السؤال، وقد تتساءل بينك وبين نفسك: ما هذه السذاجة وما هذا الهراء؟ هل يُعقل أن لبنان الصغير الذي على شك أن ينهار نظامه السياسي، كما انهار نظامه المصرفي، ووصل إلى حد الإفلاس، وتتحكم به عصابات سياسية وأخرى طائفية، ويعاني شعبه الويلات وتعدد الولاءات، أن يصمد أمام عدو قوي غني ذكي وخبيث مثل إسرائيل، في حوزته ترسانة أسلحة رهيبة، ومدعوم من معظم دول العالم الحر؟ إذا اتفق وراودك هذا التساؤل أيها القارئ الكريم، فجوابي عليه بعبارة صريحة واضحة لا لبس فيها: نعم، بمقدور لبنان أن يحمي نفسه من إسرائيل، ويفضحها في العالم. لا تدفعني إلى هذا القول أحلام وتمنيات وهمية، بل ثقة لا تشوبها شائبة، بإن لبنان، هو البلد الوحيد في المنطقة العربية المؤهل للقيام بهذا الدور. لا تذهب في الظن بعيدا أيها القارئ الكريم وتحسبني أستلهم ثقافة عروبة واهية أو قومية واهية، أو أنني من أنصار ما يسمى بمحور الممانعة، وتيار 8 آذار. لست مع هذا المحور أو هذا التيار في شيء، ولست مع التيار الآخر الذي عنوانه 14 آذار. كلامي نابع من إيمان لا يتزعزع بقدرة لبنان على مقارعة إسرائيل في المحافل الدولية، لأنه أولاً على حق، وثانيا لأنه ساعة يكون دولة محترمة جدية تقودها عقول ذكية قوية ومخلصة، يستطيع عندئذ أن يحمي نفسه، أما بقاؤه كما هو الآن؛ أحزاب وطوائف وقبائل متنازعة، فضرب للروح الوطنية التي هي أساس كل بلد، وقد شهدنا منذ « الاستقلال » الموهوم إلى اليوم، كيف تراجع لبنان عقدا بعد عقد، وعاماً بعد عام.

حتى يقوم لبنان بهذا الدور، هناك حل واحد أمام اللبنانيين لا حل غيره، هو أن يقيموا دولتهم المدنية العلمانية، لأن في هذه الدولة وحدها تكون وحدتهم وتتكّون، وفيها يعلو الإيمان على التدين. هي الصيغة الوحيدة التي تنسجم مع الأديان متى كانت الأديان فعل إيمان، لا طقوساً جامدة تُفرّق بين الناس، ومادة يستغلها الحاكم الفاسد ورجل الدين الفاسد، في أبشع الصوروأشدها قذارة! حين يكون لبنان هذه الدولة المحترمة، ونظامه السياسي منسجماً مع القوانين والشرائع العالمية، ومماثلاً لنظم الدول الراقية، سيصعب على أي دولة قريبة أو بعيدة أن تناله بسوء. يكفي وحدة شعبه أن تكون الضمانة لتجنّبه الكوارث، وإعطائه المناعة الكافية ضد الأخطار. أعطي مثلا على ذلك: لو قررت دولة قوية عظيمة مثل فرنسا أن تعتدي على دوقية صغيرة مثل « لوكسمبرج » وتضمها إليها، كيف ستكون ردأت الفعل العالمية؟ لا شك في أن العالم كله، والشعب الفرنسي كله، سيقف ضد فرنسا، لسبب بسيط، وهو أن نظام هذه الدوقية راق ويماثل أنظمة الدول الراقية، كذلك الأمر إذا اعتدت دولة جبارة مثل الولايات المتحدة على كندا، فإن العالم كله، والشعب الأميركي كله، سيقفون إلى جانب كنداً، لأن النظام في كندا مقبول عالميا ومماثل لنظام أي دولة راقية. في المقابل، يسهل على دولة مثل فرنسا أن تعتدي على بلد مثل ليبيا، يحكمها دكتاتور مثل معمر القذافي، ولا يرف جفن أحد في العالم، ويسهل على دولة مثل الولايات المتحدة، أن تجيَش جيوشاَ مختلفة، وتغزو بلداً مثل العراق، يحكمه دكتاتور مثل صدام حسين، ولا يرف جفن أحد في العالم. الحال ذاتها بين لبنان وإسرائيل. كم من المرات اعتدت إسرائيل على لبنان، وكم من المرات حلّق طيرانها في سمائه، وما رف جفن أحد، هذا مع العلم ان إسرائيل دولة معتدية، لكن الصهاينة أذكياء، خبثاء وشطّار، يعرفون كيف يسوّقون قضيتهم، ويظهرون للعالم بأنهم « واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط »، وأن اعتداءهم على لبنان وعلى الفلسطينيين، هو دفاع عن أنفسهم، واعتداء على أنظمة بالية، يعشعش فيها « الإرهاب » وحكامها فاسدون!  مهما يكن الأمر، علينا أن نلوم أنفسنا أولاً قبل أن نلوم الآخر، مهما كانت جنسية هذا الآخر، وكانت نياته وكانت جرائمه، لأن بقاءنا أنظمة سياسية بالية عفت عليها الأزمان، وتمجيدنا « زعماء » لا يستحقون المناصب التي هم فيها، ولا تليق بهم إلا مزابل التاريخ، معناه أننا نحلّل أنفسنا للذبح، قبل أن يحلّلها الآخرون!

لبنان بلد جميل، ومن أجمل بقاع الأرض، واللبناني خلَاق بطبعه، بانِ ومبدع في حقول مختلفة. ثقافته الفريدة، وعلاقته القديمة مع الشرق والغرب، أضفت على روحه سمة الاعتدال، وجعلته مُحّباً ومحبوباً، لا يضمر الكراهية لأي شعب، ولا حتى لليهود، ولا لأي دولة باستثناء « إسرائيل الصهيونية ». هو محب بنوع خاص، لسوريا الشقيقة، خصوصاً إذا سالمته ورعت علاقة الأخوة التاريخية بينها وبينه، وهو بلد ثري، وما ضعفه الحالي إلا نتيجة سياسة رعناء، خطّها « زعماء » فاسدون، أفقروه وحولوه إلى مستجدِ على أبواب الدول والمؤسسات المالية العالمية، وهو بغنى عن ذلك كله. لبنان غني بأرضه المعطاء، بطبيعته الخلابة، وبثروات أبنائه المنتشرين في العالم، وكل الذي يحتاجه أبناؤه ليحققوا هذه الأمنيات الغاليات، دولة جدّية محترمة، يكون ولاؤهم لها، لا لغيرها، وبها يخرجون من ثقافة القنفذ (Hedgehog mentality) إلى رحاب الحياة الحرة الكريمة. حين يتحرر المواطن اللبناني من « عِلّة اللاوعي » التي تنامت في وجدانه، عبر سنوات طويلة من القهر والحروب، وتحكّم رجال السياسة والدين في حياته، ومن علة « عبادة الشخصية »، يكون قد وضع نفسه على الطريق المستقيم، وهذه الطريق المستقيم التي توجد المجتمع المتجانس، والوطن السيد الحر المستقل، لا يمكن أن تتوافر إلا في ظلال دولة مدنية علمانية، والذين يظنون أن هناك حلاً آخر واهمون! قد يُعيد أهل النظام تركيب دولة على مثالهم، تُوّفر للشعب شيئا من الأمن والازدهار، لكن هذا كله سيكون موقتاً، وأشبه بذر الرماد في العيون، وعاجلا أم آجلاً، سوف يهتز بنيان هذه الدولة أمام أي حدث خطير، وتسقط « فيديرالياتها » كما يتساقط ورق الشجر أمام الريح العاتية. أمام لبنان وشعبه تحدِ خطير، والوقت ضيق، فإما أن يسلكوا طريق الدولة المدنية العلمانية الحرة، أو يسقطوا مجدّداً في عباءة الجاهلية، أسرى بيد قبائل تحكمها وتتحّكم بها القبيلة العبرانية. ساعتئذ ينهار لبنان المحبّب الذي عرفناه وأحببناه، يفقد هويته ويذوب في مستنقع القبائل، فتعلو نجمة داود على أنقاضه، وينزل « ربُ صهيون » من عليائه، لينجز الآية الرقم (5:29) من سِفر المزامير: « صوتُ الربِ مُكسرُ الأرز ويكسِرُ الربُ أرزً لبنان »!